الخميس، 20 أغسطس 2015

عن العشق و الكيماوي

عن العشق و الكيماوي
ديمة و دوما معشوقتاي.
في شهر نيسان عام 2012 أتيت بديمتي إلى دومتي و قلت لها هنا مدينتي ... هنا أحيا ..... هنا ستعيشين ......
كانت آثار الرصاص على كل بناء و كان الأسد لم يستعمل طيرانه بعد ضد الغوطة ..... كانت الزيارة الأولى لها لدوما عبر الطريق الزراعي فلا أجروء على المرور من الحواجز بل كنا نتجنبها بالمرور بطرقات زراعية وعرة .
كانت تعلم تماما حبي للمدينة التي نشأت فيها و أني ملتصق بها ...
كانت المفارقة هي اشتراك الاسمين بالحروف ...... أخطأت عدة مرات و أنا أتحدث عن ديمة فقلت دوما و كان ذلك لا يزعجها و لكن يقلقها و كأنها كانت تعرف أنه سيأتي يوم أترك البقاء فيها للأبطال و أخرج منها لأصبح شخصا متعباً غاضباً  طوال الوقت .
تزوجنا في 22 أيار 2012 و نزحنا كما نزحت كل دوما في 28 حزيران بعد المجزرة التي قامت بها قوات الأسد و الإعدامات الميدانية التي كانت تقوم بها الحواجز.
كانت تعلم أنني لن أغيب طويلا فعدنا قبل كل العائدين بعد اسبوع فقط حالما عادت الكهرباء للمدينة..... كانت حارتنا خالية من السكان و كان يفصل منطقة خلف البلدية التي قطنا بها قناصان اثنان عن باقي المدينة و سكنا حتى عاد السكان شيئا فشيئا و عشنا كما عاش كل الناس متأرجحين بين الرغبة في النزوح بحثا عن الأمان و عشق البقاء في مسقط الرأس و وأرض الأحباب .
كنا نأسس النقاط الطبية في المدينة بعد تحريرها في نوفمبر من نفس العام و كان لزاما علينا البقاء في دمشق بسبب الجنين المنتظر و عدت وحدي إلى دوما و هذه المرة بدون كهرباء أو هاتف أو حتى ماء ..... ادخلتني حنان يومها فكان المرور بسيارة فيها عائلة على الحواجز أكثر مرونة من مرور رجل بعمري .
و عاشت ديمتي متأرجحة بين دومتي و دمشق ...... تأتيني 15 يوماً و تعود مثلها لبيت النزوح في دمشق .
20\8 و لا أتكلم عن المجزرة فالمجزرة حدثت في ليلة 21\8
20\08 هو عيد ميلاد زوجتي التي تركت كل أهلها و عشيرتها و اختارت أن تعيش معي فهي مسيحية و أنا مسلم في بلد غنينا فيه سوا ربينا حتى اكتشفنا مدى خداع فيروز حين كبرنا و اكتشفناه نحن بالذات حين صرحنا بحبنا .
تقبل أهل دومتي ذلك الزواج و باركوه بل و قاموا بحمايته .....
لا أستطيع أن أحصي كم تعرضنا لمخاطر بسبب الثورة و ...... بسبب ذلك الحب و سيخطر على بال الكثيرين أن المخاطر من أهل المدينة .....
أبدا لم تكن المخاطر من أهل المدينة بل على العكس حمتنا دوما و رجالها و أبنائها و لكن ...... لم يك بالإمكان أن نحتفل بعيد ميلاد ديمة فقد كانت قد ولدت منذ أشهر قليلة و لم تك حركتها ذهاباً و إياباً بين دمشق و دوما بتلك السهولة ........ فقد كان الطرقات تغلق واحدة بعد الأخرى و الحواجز تزيد من عهرها منذرة بالحصار القادم دون ان نعي ذلك ....
ليلة المجزرة كنا نتحدث عبر سكايب أنا و زوجتي ....
حب عبر سكايب يدمنه أطباء الغوطة ........ فالكثير منهم عائلته في الخارج و بقي هو ملبيا إنسانيته ...... كم من مرة شهدت الزملاء في سكن الأطباء يساعدون أبنائهم في الفروض المنزلية لا لينجح الابن في المدرسة بل لينجح الأب في اختبار الأبوة التي حرمه منها الأسد .
كم من مرة شهدت طبيباً بعد 15 ساعة في العمليات ينزوي في أحد أركان سكن الأطباء محدثا زوجته بصوت خافت ..... يطمئن على أبنائه.
ليلة المجزرة كانت ديمة غاضبة من وضعنا ..... هل تأتي إلى دوما و تستقر أم أن فارس لم يشتد عوده بعد ...... كانت مخاوفها لقاحه و حليبه و حفوضاته و لم أدرك ليلتها أن القادم أعظم و أن ساعة تفصلنا عن المجزرة و أن شهران يفصلاننا عن إحكام الحصار كي لا يبقى لفارس شيء من الطعام .
قطعت مكالمة السكايب بالنداء اللاسلكي ...... و بأخبار الغروبات على الفيس بوك ....
كنا أطلقنا تحذيرا بأن لا يتم الإعلان عن استهداف كيماوي إلا عبر طبيب فقد أثار احتراق إطار أو برميل قمامة الذعر بين السكان عدة مرات .
طلبت نقطة الإسعاف و كان الصوت المرتجف للطبيب المناوب ينبئ بالكارثة : عشرة عشرة عم يجيبو الجرحى ..... زملكا كلها ماتت ..
كرهت يوم مولدي ...... هكذا تقول ديمتي .... كرهت يوم مولدي
لم يسعني حتى اللحظة ان أحتفل معها في عيد ميلادها ففي الذكرى السنوية الأولى كنت مسافرا بعيدا عنها 4 آلاف ميل و اليوم أبعد عنها 800 ميل بسبب العمل و كان يوم المجزرة يفصلنا عشرة كيلومترات ما زالت هذه الكيلومترات العشرة حتى اليوم تفصل بين الموت و الحياة بين الجوع و الشبع بين صحة و المرض ...... بين الحرية و العبودية .
أكملنا حديثنا بعد 15 يوماً التي استهلكتني لكي امتص الصدمة الإعلامية و السياسية التي أحدثتها المجزرة .......
سآتي إلى دوما ..... سنعيش معاً أو نموت معاً ....
حمانا اهل دوما و خاطر البعض بإيصال ديمة إلي .... كان يعلمون ان لدينا أنا و هي مشكلة أمنية مع النظام و كان مجرد تقديم خدمة التوصيل عبر حواجز دمشق لها خطرا ......
حاولت السيطرة على مخاوفها و كان الحصار لم يشتد بعد فجمعت ما في السوق من خضار و فواكه و حلويات و شوكولا و حليب اطفال كي تأتي لتجد كل مستتلزمات فارس موجودة .
أغلق الطريق في اليوم التالي مباشرة 10 أوكتوبر 2013 و دخلت الغوطة في حصار مطبق و نفذ كل ما لدينا خلال شهر .....
عشنا الحصار ...... خبزت الصيدلانية ذات الأيدي الناعمة خبز العلف بأيديها .... كسرت الحطب ..... أطعمت أمجد ابن أم احمد التي كانت تزورها لتؤنسها بيديها من طعام فارس القليل أصلا ....و اختبأت في الملاجئ مرارا و تكراراً مخفية دموع خوفها من الطيران .
كان الجميع يحاول ان يؤنسها ....
أبو عادل بلحيته الكثة كان يشيح نظره كل ما مرت و يقترب مني ليسألني : امانة لازمها شي؟ .... خليها تطلع لعنا عالبيت بتتسلى .... هدى الصديقة العزيزة لا يمر يوم دون ان تأتي لتؤنسها ..... أم عماد كانت أماً لها في الغوطة .... الأطباء في المشفى كانوا يقولون لي ..... لا تتأخر عليها ... مرتك لحالها ... ما لها حدى غيرك ....
كان الجميع في دوما يريد لهذا الحب ان ينجح ..... إلا الأسد
اعتقل اثنان من أصدقائي في المخابرات الجوية على خلفية زواجنا و عمم اسمي و اسمها على الحدود و الكارثة الأكبر أنه اختار ليلة ميلادها للمجزرة ....
كرهت يوم ميلادي ....
كنت أصلا استعمل يوم ميلادها لحساباتي في الفيس بوك و السكيب
حساب السكيب الخاص بي ينتهي بميلادها كي لا أنساه .
اليوم لن ينساه أحد .....
كنت بحكم عملي أتجول كثيرا بين بلدات الغوطة و كنت خلال كل جولة أبحث عن أي شيء أجده كي أخفف عنها الحصار ..... مرة عدت بحبتي بصل و كيلو سكر و أربع بيضات من جولة في سقبا ..... كانت ابتسامتها و كأني جلبت لها خاتم ألماس فالسكر سيعني بعض الدفء لفارس و البيض سيعطيه مصدرا آخر للبروتين غير مرق اللحم .
في بداية شباط 2014 عدت إلى المنزل و وجدتها تبكي .... أدخلتني إلى سرير فارس و كشفت الغطاء عنه ..... كان ينزف من مؤخرته لأننا كنا نستعمل أكياسا بلاستيكية بدلا من الحفوضات لعدم توفرها ....
كانت الحفوضات حلماً ..... كنت أمزح و أقول سابقاً : حتى حق الشخاخ بدو الأسد يحرم فارس منه .....
و لكن يومها تذكرت كلامي .... أي حياة أحرم ابني من أن يعيشها و طمأنت نفسي بان الله لا يكلف نفساً إلا وسعها و قررت الخروج بقرار لا أعلم حتى اليوم خطأه من صوابه ...... و حمتنا بعدها دوما و حمت حبنا ....
و خاطر رجل آخر من رجال الغوطة بأن حملها مرة أخرى في سيارته عبر حواجز دمشق و خاطر آخر بحل قضيتها على الحدود .
كان الجميع يصرح حين يسلك طريق التهريب الشائك الوعر بأنه يريد أن يخرج ليخدم الغوطة من خارجها ...... و لكني صرحت يومها بأنه لا طاقة لي و أني لن أترك زوجتي التي تركت الدنيا لأجلي تعيش غريبة وحدها ....... خرجت بعدها بثلاث أشهر و حمى حبنا عدة أشخاص آخرين منهم من استشهد و منهم من ما زال في مكانه ....
ليلة المجزرة تعني مأساة للكثيرين ..... قد ينعم الله عليهم بالنسيان و لكن أن يكره الإنسان يوم مولده ؟؟؟؟.......
ما زال هناك الكثيرون من أبطال تلك اليلة في الغوطة يعانون مثل ما عانيت و يحتفظون بحبهم في قلوبهم فلا يبوحون و لا يتحدثون ...... يعيشون مأساة تلك اليلة كل يوم .........
كان عنوان ليلة الكيماوي للأطباء في آب 2013 الخيار الصعب ..... من تنقذ و من تترك؟؟؟ ..... في بروتوكولات الطب هناك معايير لذلك وفق تصنيف خطورة الحالة و لكن أن تضطر لأن تختار بين طفل و أخاه بين أم و طفلته لأنك لا تملك إلا 9 منفسات لآلاف المرضى .... لأنك لا تملك إلا 30 سرير في الإسعاف لمئات المرضى ...... هذا يحصل اليوم لأطباء ما زالوا هناك في بلد الحياة دوما ......
السيارة التي أخرجت زوجتي لأننا ما عدنا نطيق البقاء في الغوطة أدخلت زوجة طبيب آخر لأنها ما عادت تطيق البقاء خارجها ....
دومتي لن تباد ...... دوما حية و ستعيش و سيموت قاتلها
ديمتي مولدك أحلى الأعياد .....
كل عام و أنت بألف خير 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق